نهمس بها حزنا فى عالمنا الواقعى، ونجهر بها رفضا فى عالمنا الإفتراضى.. لم تعد مجرد حلم يراود البعض لتحسين ظروف معيشته.. لكنها باتت هروبا من حياة خانقة كل مافيها يدفعك للبحث عن الخلاص منها أو من نفسك.. اللهم هجرة لم تعد مجرد مزحة يطلقها الفيسبوكيون لكنها دعوة من القلب يناجى بها كثيرون ربهم وهم يسجدون تضرعا له.
اللهم هجرة رغم عشقنا لتراب هذه البلد.. رغم حبنا لكل مافيها.. رغم ولهنا بشوارعها وحواريها وصخبها وضجيجها.. رغم تحملنا لزحامها وتلوثها وقبحها.. رغم ذكرياتنا وعمرنا وأيامنا المحفورة فى كل شوارعها وضواحيها، رغم دفء لمتنا وصخب أعيادنا وبهجة طقوسنا وأفراحنا.. اللهم هجرة رغم جذورنا المغروسة بقوة فى طين هذه الأرض.. رغم يقيننا أن لاسعادة لنا إلا فى حضنه وبين أهله.. اللهم هجرة فلم تعد لنا طاقة لتحمل المزيد.. لم يعد الحلم بها ترفا أو طمعا أوتطلعا.
لم يعد المجاهر به موصوما بعدم الإنتماء وقلة الصبر وضعف القدرة على التحمل، تلك الإكليشيهات البالية التى كنا نطلقها على كل من يفكر فى الهجرة، نطلقها وأيدينا فى ماء بارد، نطلق إتهاماتنا بينما لاننظر بعين الرحمة إليه ونقدر ظروفه، نطلق أحكامنا القاسية بينما لانتأنى ونسترجع حكمة أجدادنا "إيه اللى رماك على المر".. نستهين بمواجعهم وشكواهم عندما يحكوا لنا عن متاعب الغربة وآلام الإشتياق ووجع البعاد والحنين لحضن الاهل والوطن.. لم تكن مواجعهم تؤرقنا بالقدر الذى تستحقه عذاباتهم تترجمها ردودنا الباردة المستفزة "البلد دى أحسن من غيرها".
لم نتصور يوما أن ماباتوا عليه صارت القاعدة وليست الإستثناء، رغم قناعتنا ويقيننا بأن البلد دى مازالت فى وجداننا أحسن من غيرها، لكننا لم نعد نحتمل الحياة فيها.
لم يعد صعبا علينا أن نتحمل ابتعاد أبنائنا عنا.. بل اصبحنا نحن من ندفعهم لإستكمال دراستهم فى الخارج وشق طريق لحياتهم هناك.. ندفعهم للحياة فى بلاد تبعدنا عنهم أميالا، نقوى قلوبنا على تحمل آلام البعاد أملا فى حياة آدمية باتت مستحيلة وهم بالقرب منا.. فاللهم هجرة.. هكذا نترجم غضبنا، ضيقنا، رفضنا لكل مايحيط بنا ليس فقط من غلاء وضيق الرزق وصعوبة تدبير قوت يومنا ولكن وهذا هو الأخطر عدم شعورنا بالأمان وعجزنا عنآ البوح عما نعانى منه من سوء أحوال.
بين شقى رحى نئن.. ضيق ذات اليد وكتم الصوت وربط الألسن عن الإعتراض..غلاء خانق ليس من دونه مفر.. نتحايل بكل الطرق على مواجهته فيطل علينا المسؤولون مخرجين ألسنتهم ليحاصرونا بموجات وموجات منه.. حصار محكم لا أمل من الفكاك منه، مثلما لايبدو أمل قريبا فى حرية مغتصبة مهانة مكتوم صوتها تحت دعوى محاربة الإرهاب، لاصوت يعلو فوق صوت الفقر ولاصوت يعلو فوق صوت القهر ولا صوت يعلو فوق صوت الظلم، اللهم هجرة.. أشفق على كل من يطلقها من قلب تملؤه غصة هربا من وطن بات عصيا على مجرد العيش وليس الحياة فيه.
-------------------------------------
بقلم: هالة فؤاد
من المشهد الأسبوعي